
يبدو أن تطاول أمد الازمة السياسية بالبلاد قد انعكس سلباً على الاوضاع الاقتصادية، ولقطع الشك باليقين ما عليك عزيزي القارئ الا ان تزور أقرب سوق او مؤسسات تجارية او حتى المطاعم واماكن الترفيه لتعرف ان هناك ركوداً مخيفاً بدأ يسود الحياة العامة للسودانيين.
ومع مرور عام ويزيد على حالة الفراغ الدستوري وعدم تسمية رئيس وزراء وانشغال النخب والساسة بماراثون التفاوض حول شكل الحكم والدفع بعجلة الانتقال تتمدد حالة الغضب الشعبي، فالحياة في مقرن النيلين أضحت اغلى بكثير من عواصم دول العالم الاول والثاني ناهيك عن الثالث.
ويجمع مراقبون وخبراء على انه ما لم ينصلح حال المشهد السياسي فإن المشكلات الاقتصادية ستتمدد ولن تفلح معها جهود المسكنات التي في ما يبدو لم تعد قادرة على حالة (تخدير الآلام) في معاش الناس، وسط مزاج شعبي يسوده التوجم والذهول والقلق في مواجهة غول الغلاء، مما أفرز حالة من الركود في كل الاسواق.
أسباب الركود
ضبابية سياسات الحكومة أثرت بشكل كبير في سوق العمل والانتاج، كما ان السيف الذي كان مسلطاً على رجال المال والاعمال خلال السنوات المنصرمة ساهم بشكل كبير في هروب رؤوس الاموال للخارج، واصبحت أديس ابابا واستنبول والقاهرة وجوبا ودبي أبرز المحطات الخارجية التي استقطبت رأس المال السوداني، اضافة الى ذلك فإن زيادة الرسوم على مدخلات الانتاج المختلفة على سبيل المثال (السماد والمدخلات الزراعية) كان لها اثرها السالب في حجم المساحات المزروعة والكميات المنتجة (قلة الانتاجية).
وواحدة من المعضلات اضافة الى حالة الركود تأخر اعلان واجازة موازنة عام 2023م حتى الآن، ولم تفصح الحكومة عن أهم مؤشرات الموازنة التي الى حد كبير يبني عليها القطاع الخاص تحديداً سياساته. ولكن من الاسباب الرئيسة التي احدثت حالة الركود اغلاق شرق السودان في الفترات الماضية، مما أثر في عمليات الاستيراد والتصدير بشكل كبير، ودفع بعض الشركات العالمية التي تورد للسودان للاحجام عن التعامل مع الخرطوم، ولذلك حدث نقص حاد في بعض السلع والمنتجات وأسهم ايضاً في زيادة الاسعار بشكل كبير، بجانب تأثر قطاع النقل في البلاد بشكل كبير مما أثر في حركة نقل البضائع من والى المركز، فضلاً عن غياب الاجسام التي تقوم بدفع عجلة الانتاج مثل (اتحاد اصحاب العمل والغرف التجارية) التي تأثرت بشكل كبير بالقرارات المضطربة للسلطات على غرار اعادة الاتحادات السابقة تارة وايقافها تارة اخرى.
انسداد الأفق السياسي
حالة السيولة السياسية الماثلة بالبلاد بسبب تأخر تشكيل الحكومة كان واحداً من الاسباب التي اقعدت الاقتصاد نسبة لغياب الرؤية الاقتصادية التي يرسمها مجلس الوزراء عبر القطاع الاقتصادي، ويدخل في ذلك تنفيذ الاتفاقيات ذات الطابع السياسي والاقتصادي والصناعي مع الدول الصديقة، ويتطابق ذلك مع حالة الفراغ التي كانت بائنة في عدد كبير من سفارات السودان بالخارج.
وبحسب المؤشرات فإن حالة انسداد الافق السياسي لها أثر مباشر في الحالة الاقتصادية (سياسات البنك المركزي والعملة الصعبة)، فضلاً عن الصراع القبلي في بعض مناطق الانتاج على غرار دارفور والنيل الازرق وشرق السودان.
والمناخ العام دفع الكثير من السودانيين لاماكن اخرى، حيث بدت ملاحظة هجرة عدد كبير من الاسر صوب مصر نسبةً لقلة تكلفة المعيشة بالقاهرة، بجانب مغادرة عدد كبير من اصحاب الشركات المتوسطة والصغيرة صوب موريتانيا وجوبا وتنزانيا.
تغطية المصروفات
ونقل (سودان تربيون) خلال وقت سابق تقديرات وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل ابراهيم للمبلغ المرصود لموازنة عام 2023م بحوالى خمسة تريليونات جنيه سوداني. وذكر جبريل ان التحدي الأكبر للموازنة يتمثل في الحصول على الإيرادات الكافية لتغطية المصروفات المتوقعة.
وكانت (الانتباهة) قد أوردت أمس تصريحات للامين العام لشعبة مستوردي السيارات حمد عبد الحفيظ عن انخفاض استيراد السيارات بنسبة 90%، كاشفاً عن تراجعه لـ (13) الف سيارة في العام المنصرم مقارنة بـ (119) الف سيارة في سنة 2021م، مشيراً الى هجرة عدد كبير من تجار السيارات للمهنة، وتعرض البعض لخسائر كبيرة جراء القرارات الاقتصادية الاخيرة.
كما نقلت الصحيفة ايضاً أمس الاول نبأ هروب عدد من رجال الاعمال، وذلك وفق تصريحات طالب فيها الأمين العام للغرف الصناعية السابق عبد الرحمن عباس باستجلاب خبراء أجانب وإتاحة الفرصة لهم لإدارة الأوضاع الاقتصادية بالسودان.
واضاف ان السودان دولة غنية لكن السياسات الاقتصادية هي السبب في جعلها دولة فقيرة، في وقتٍ اتهم فيه جهات بممارسة سياسات ضد مصلحة الوطن بالعمل على عدم ثبات سعر الصرف، مشيراً الى أنّ سوء السياسات الاقتصادية والركود التضخمي أدّى إلى إفلاس عدد من رجال الأعمال وهروبهم للخارج.
انخفاض الطلب الكلي
الخبير الاقتصادي د. عز الدين ابراهيم عزا حالة الركود الى ارتفاع الاسعار الذي تمخض عنه الاحجام او الحد من الاقبال على الشراء. واضاف في حديث لــ (الانتباهة) ان زيادة نسبة العطالة أسهم في تقليل القوة الشرائية.
ويذهب محدثي الى ان الحل يكمن في ازالة العقبات التي تحول دون زيادة الانتاج لخفض الاسعار، وفي مقدمتها عدم الاهتمام بالبنية الاساسية المتمثلة في الكهرباء وزيادة الضرائب على الانتاج.
وتابع الخبير الاقتصادي د. عز الدين قائلاً: (الركود في تجارة السيارات لا ينفصل عن باقي السلع، حيث ان اسواقها تضررت نتيجة ضعف القوة الشرائية، مما اسهم في هبوط اسعارها واتجاه الكثيرين للبيع بالاجل، وذلك ليتخلص التجار من السيارات لزيادة تكلفة تشغيلها).
وفي ذات السياق يعزو الخبير والمحلل الاقتصادي د. عماد مصطفى حالة الركود في كل الاسواق الى ارتفاع الاسعار الذي افرز واقعاً اقتصادياً بانخفاض الطلب الكلي، واشار الى ان الاقتصاد السوداني جراء المعالجات التي قامت بها حكومة حمدوك بادماج الاقتصاد ضمن المؤسسات الدولية فقد ترتبت عليه جملة من المعطيات الاقتصادية غير المتوافقة مع المعطيات المحلية.
واضاف مصطفى ان وزير المالية السابق د. ابراهيم البدوي بدأ باعتقادات ان المجتمع الدولي سوف يوفر دعماً في حدود خمسة مليارات دولار ليعمل على تشكيل مكون محلي يتم نزوله في ميزان المدفوعات ويؤدي الى معالجة عجز الموازنة، وذات المبلغ ينزل في الميزان التجاري لمعالجة عجز الميزان الخارجي، وبناءً على ذلك قام بزيادات فلكية في الاجور بلغت أكثر من 600%، الا انه اصطدم بعدم توفر هذا المبلغ، مما شكل عبئاً اقتصادياً جديداً من خلال عجز الموارد الحقيقية الذي تتم الاستعاضة عنه بالاستدانة من النظام المصرفي.
ويضيف الخبير والمحلل الاقتصادي د. عماد مصطفى ان الاعتماد على الذهب كمورد للنقد الاجنبي لم يلعب اي دور في خفض الاسعار لجهة انه يباع بسعر صرف عالٍ جداً، كما انه لم يسهم في خفض عجز الميزان التجاري. واعترف محدثي بانخفاض الطلب على السيارات والعقارات وذلك نسبة للارتفاع المبالغ فيه في اسعارها، وانتقد د. عماد مصطفى عدم الاعلان عن الموازنة الجديدة بشفافية واخراجها للرأي العام، وارجع حالة الغموض التي تسود ميزانية 2023م لعدم وجود موارد حقيقية تبنى عليها، حيث انها تعتمد على عائدات بيع المحروقات والرسوم الحكومية.
تراجع العقارات
وبالمقابل كشف حسين هارون (سمسار عقارات) عن تراجع مخيف للايجارات وشراء العقارات خلال آخر ثلاثة اشهر وعزا ذلك لارتفاع الاسعار، حيث ان غالبية اصحاب العقارات اصبحوا يطالبون بالايجار بالدولار خاصة في مناطق شرق الخرطوم بامتداداتها (الستين وعبيد ختم والرياض والمنشية والمعمورة والعمارات ونمرة 2)، حيث ان تكلفة ايجار شقة فاضية غرفتين وصالة بلغ نحو (500) دولار. واردف هارون قائلاً: (يعني بقينا بالكتير بنسكن ثلاث او أربع اسر في الشهر مقارنة بالسنة الفاتت)، ولكن محدثي عاد وقال ان هنالك عدداً كبيراً من المنازل معروضة للبيع من اصحابها بغرض الحصول على المال والهجرة من السودان صوب الاستقرار في القاهرة.
الكاتبة الصحفية المتخصصة في الشأن الاقتصادي سمية السيد قالت ان حالة الركود من الظواهر الطبيعية نتاج الاوضاع السياسية في البلاد، مشيرة الى عدم وجود حكومة اثر بشكل سلبي في المشهد، وتساءلت سمية عن سبب عدم كشف الموازنة العامة للرأي العام حتى الآن، وتابعت قائلة: (الموازنة غير معلومة ارقامها، بجانب عدم وجود موارد حقيقية تعتمد عليها مقارنة موازنتي (20 و21)، وكان حينها رئيس الوزراء حمدوك يعتمد على المنح، ولكن من الواضح ان الموازنة الجديدة ستعتمد بشكل كبير على زيادة الرسوم).
وانتقدت سمية سيد الحكومة وقالت انها أهملت القطاعات الانتاجية، بل وساهمت في تكسيرها بشكل واضح ومتعمد، مشيرة الى ان الوضع كارثي ومعقد.
واضافت الكاتبة الصحفية سمية سيد ان ضعف القوة الشرائية من اسباب حالة الركود الملفتة للنظر، حيث ان هنالك ازمة معيشية خانقة يعاني منها المواطنون والحكومة تغض الطرف عنها، وحذرت سمية من تفاقم الازمات خاصة مع ارهاصات وارقام يتم تداولها عبر تقارير لمنظمات بوجود مجاعة في البلاد، حيث أن هنالك حديثاً عن حاجة (11) مليون سوداني للغذاء.
ارتفاع أسعار أرباح البنوك
رئيس اتحاد الغرف التجارية السابق نادر الهلالي بدوره علق على معرض الطرح، وقال لــ (الانتباهة) انهم نبهوا لحالة الركود الحالية في لقاء لهم مع وزير المالية وكذلك مع محافظ البنك المركزي، بضرورة مراجعة ارتفاع اسعار ارباح البنوك، حيث انها في في العالم اجمع لا تتجاوز الـ 4% والحد الاعلى وصل في مصر الى 16%، وقبل عام في السودان كان 25% كحد ادنى ووصل الى 35%. وتوقع محدثي استمرار الاوضاع بشكلها الحالي بل ستمضي نحو الاسوأ حال لم تحدث علاجات حقيقية، وستنعكس كذلك على ايرادات الدولة التي تقوم موازنتها الجديدة على الضرائب والرسوم والمعتمدة على حالة الانتاج والبيع والشراء، وهي عوامل غير متوفرة حالياً.
واشار الى ان عدداً كبيراً من رؤوس الاموال الاجنبية والمحلية غادرت البلاد، لجهة ان الوضع الحالي عبارة عن كساد واضح، مشيراً الى ان الحالة الحالية ستفاقم الازمات الاقتصادية المرتبطة بشكل وثيق بمعاش الناس مثل زيادة البطالة والجرائم وخلافها.
واضاف ان مجال النقل تضرر بشكل كبير جراء المعالجات والقرارات الاقتصادية الاخيرة، حيث ان 80% من هذا القطاع الحيوي للاقتصاد قد توقف او تم بيع اصوله لتغطية الالتزامات